تبدو قصة الكهرباء في لبنان بلا نهاية. فمنذ 1975 ونشوب الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عامًا، لم تتمكن الدولة، بواسطة "كهرباء لبنان" من توفير كهرباء لا تنقطع لمواطنيها (ووفقًا للبعض عزفت عن ذلك). تتراوح فترات انقطاع الكهرباء من ثلاث ساعات يوميًا إلى حوالي 15 ساعة أو يزيد في بعض المناطق، فضلاً عن المطر والحاجة المتزايدة لأجهزة التكييف في الصيف والتأخر في استيراد زيت الوقود، إذ يشار إليها أحيانًا كأسباب لأيام تشهد فترات انقطاع أطول للكهرباء. ورغم أن الدولة جنّبت حوالي 10 مليار دولار لأجل الكهرباء، فلا يزال توفير الطاقة بعيدًا عن الطبيعي وينتهي الأمر بالأغلبية العظمى من اللبنانيين إلى دفع فاتورتي كهرباء: واحدة لشركة "كهرباء لبنان" وأخرى لملاك شركات المولّدات الكهربائية التي انتشرت سريعًا في أنحاء البلاد وصارت جزءًا من حياة اللبنانيين اليومية.
قد يصعب استيعاب معاناة اللبنانيين على من يتمتعون بأربع وعشرين ساعة من الإمداد بالكهرباء كأمر مسلم به. لكن انقطاع الكهرباء يتسبب في معاناة الأسر يوميًا، ناهيك عن الأضرار البيئية الناتجة عن المولّدات التي تبعث أدخنتها القاتلة في أجواء المناطق المأهولة بالسكان.
يؤثر عدم وجود مصدر مستمر يُعتمد عليه للطاقة على الصناعة ومقدمي الخدمات، كما يجعل من لبنان بلدًا أقل جاذبية للمستثمر الأجنبي. لذا، فلا بد من ترحيب خاص من الأخبار، حين تعلن شركة كهرباء محلية خاصة، مستقلة عن "كهرباء لبنان" لكنها تعمل بموجب اتفاقية امتياز مع الحكومة، عن وعدها لعملائها بإمداد غير منقطع للكهرباء وبأسعار منخفضة نسبيًا. هذا هو ما وعدت به "كهرباء زحلة" 53000 من مشتركيها بدءًا من فبراير 2015، وذلك بإعادة تشغيل محطة توليد طاقة قديمة تملكها الشركة. كان من المقدر أن يخفِّض المشروع من تكلفة الطاقة بمعدل يصل إلى 50 بالمائة لكل أسرة.
أجرت "دايلي ستار" حوارات مع عدد من المواطنين (ديسمبر 2014) أعربوا عن دعمهم لشركة "كهرباء زحلة" وقالوا أن 24 ساعة من الكهرباء بالنسبة لهم حلم يتحول إلى حقيقة. لكن، في لبنان، كان مصير هذا الأمل هو الخيبة، ليس فقط لتعذر التنفيذ تقنيًا، وإنما ببساطة لاستمرار إرث الحرب الأهلية. في كتابها "لبنان، بلد محطم: أساطير وحقائق حول الحروب في لبنان" (الطبعة الثانية، نيويورك 2002) تذكر إليزابيث بيكارد ما يلي: "سرعان ما أدى انهيار اقتصاد الميليشيا إلى استملاك اقتصاد الدولة خلال نظام سمح لثقافة الفساد أن تعلن عن وجودها". وتضيف: "انحلال الدولة ونهوض "دويلات" الطوائف خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كان بداية انقطاع التواصل بين الدول (التي لم تتمكن من حمايتهم أو حماية المجتمع). وتفاقم هذا الوضع في فترة ما بعد الحرب، عندما أصبح أسياد الحرب السابقين جزءًا من نظام الدولة القانوني، واحتفظوا غالبًا بأتباعهم ومؤيديهم خلال فترة الحرب. تدريجيًا، أصبحت الحكومة أداة المصالح المالية الفردية والطائفية بدلاً من كونها مسؤولة أمام المواطنين كافة."
وفيما يبدو أنه الحال دائمًا في لبنان، لا تتحول الأحلام إلى حقيقة، خاصة عندما تكون مصالح المافيا عرضة للخطر. بإعلان "كهرباء زحلة" عن وعدها في ديسمبر 2014، اعترض ملّاك المولدات المحليون علانية على هذه الخطوة بقطع الطرق وإحراق الإطارات. وفي حركة أكثر جدية، في فبراير من هذا العام، حدث هجوم على أربعة محولات تابعة لشركة "كهرباء زحلة"، أوقفها تمامًا عن العمل، وقلل الإمداد اليومي للشركة من الكهرباء إلى 12 ساعة فقط يوميًا. ورغم عدم إلقاء القبض على أحد رسميًا في هذه الواقعة، فالرأي الغالب بين المواطنين أن الفاعلين هم هؤلاء الذين سيضطرون إلى تحمل خسارة تجارتهم المربحة في حالة تنفيذ خطط "كهرباء زحلة".
وتكمن المفارقة في أن ملّاك المولّدات يستخدمون الأعمدة والشبكات التي توفرها الحكومة اللبنانية وتملكها، في تحدٍ صريح لسلطتها. عجز الدولة عن وضع نهاية لمافيا المولّدات يعني أن مواطني عاصمة محافظة البقاع، زحلة، وكذلك 18 قرية في البقاع، سوف يواصلون تحمل معاناة انقطاع الكهرباء، ودفع فاتورتي كهرباء، وكذلك تحمل الضوضاء والتلوث الناتجان عن المولّدات المعروفة بمخاطرها على الصحة العامة والبيئة. ويعد هذا خيبة أمل كبيرة لمواطني المنطقة الذين فقدوا فرصة للتخلص من فواتير المولّدات الشهرية – التي تُحسب بسعر مرتفع يبلغ 125 دولارًا لكل 5 أمبير [1]-- كما أنهم سيظلون أسرى لدى ملّاك المولدات، أو ما هو أسوأ من ذلك، لموفر الطاقة المتاح الوحيد الذين لا يملكون أمامه خيارًا سوى الإذعان.
هؤلاء ممن يرون أن آثار الحرب اللبنانية لا تزال ترمي بظلالها على ثقافة التجارة، وسط أشياء أخرى، معهم كل الحق على الأرجح. ويبدو أن وضع الإرادة السياسية حد للاستغلال الصريح للمواطنين هو احتمال غير موجود من الأصل. يقتنع اللبنانيون بأن مافيا المولّدات لم تكن لتجرؤ على الوقوف أمام "كهرباء زحلة"، وأمام 53000 مشترك في الحقيقة، لو لم تنعم بتستر السياسيين الفاسدين عليها. لا يهم كيف تُدار لعبة الطاقة والتجارة، فلا شك في أن من يعاني حقيقة هو المواطن العادي الذي يفقد الأمل تدريجيًا في حكومته. بل إن الكثير من المواطنين يصرح بأنه نتيجة للثقافة السائدة، يضطر هو نفسه إلى ممارسة الفساد أينما يتاح له ذلك (بالرشوة، الغش، التهرب الضريبي، إلخ) لأجل تعويض "الصفقات الخبيثة" التي يجد نفسه دائمًا في موقع الطرف المتلقي لها. الفساد، كالعادة، يلد فسادًا.
Fact Box
حقائق:
- موفر الطاقة الرئيسي في لبنان هو شركة "كهرباء لبنان"، وهو مؤسسة عامة تؤدي مهام صناعية وتجارية. تأسست بموجب قرار رقم 16878 في العاشر من تموز عام 1964، وأُلحقت بوزارة الطاقة والمياه. تتحكم "كهرباء لبنان" في 90% من قطاع الكهرباء في لبنان، ولذا تتمتع بمركز احتكاري. العدد القليل من الموفرين التابعين للقطاع الخاص يبيعون إنتاجهم لشركة "كهرباء لبنان". وبرغم مركزها الاحتكاري، تواجه "كهرباء لبنان" صعوبات اقتصادية بالغة، بدين متراكم يصل إلى 27 مليار دولار. يرجع ذلك بدرجة معقولة إلى عدم الكفاءة الإدارية، التي تتضح من حقيقة أن الفواتير غير المدفوعة للشركة وحدها تُقدر بمليار دولار.
- توقعات العجز في الطاقة (كهرباء لبنان 2011) (الفجوة بين الإمداد والطلب)
- 2011: 800 ميجاوات (33%) عجز، ما يقابل 8 ساعات يوميًا.
- 2013: 1330 ميجاوات (47%) عجز، ما يقابل 13.5 ساعة يوميًا
- 2016: 1909 ميجاوات (58%) عجز، ما يقابل 14 ساعة يوميًا
- يعتمد المواطنون اللبنانيون على الإمداد بالطاقة من ملّاك المولدات. في 2009، قُدّر التوليد الخاص بنسبة حوالي 30% من إنتاج الطاقة. يقدم ملّاك المولّدات الكهرباء للمواطنين اللبنانيين في مقابل رسوم اشتراك شهري. وتُقدر تكاليف الاشتراك السنوي المدفوعة بمبلغ 1.2 مليار دولار.
- ببلوغها 0.23 دولار لكل كيلو وات/ساعة، تُعد تكاليف إنتاج الكهرباء في لبنان هي الأعلى على مستوى العالم.
- برغم انقطاع الكهرباء المتكرر والتكاليف الباهظة لإنتاج الكهرباء، يشغل لبنان المرتبة 57 من 189 في فئة الحصول على الكهرباء وفقًا لتقرير البنك الدولي- ممارسة أنشطة الأعمال 2014.
- تم تطوير تطبيق على الهواتف المحمولة يمكن للمواطنين خلاله معرفة الأوقات التي ستنقطع فيها الكهرباء في منطقتهم.
ترجمته من الإنكليزية لارا عزّام
[1] يحتاج منزل عادي على الأقل 10 أمبير لتشغيل الثلاجة، التلفاز ومكيف الهواء في وقت واحد.